سورة الرعد - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرعد)


        


{كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34)}.
التفسير:
قوله تعالى: {كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ..}.
خلت: أي مضت، وتركت ما كانت تشغله خاليا منها.
وفى قوله تعالى: {كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ} تنويه بقدر النبىّ، وبشأن رسالته التي أرسل بها.. وأنها وإن تكن مسبوقة برسالات النبيين من قبله- فإنها ذات صفة خاصة، وشأن فريد، اختصت به، حتى لقد أصبحت بهذه الخصوصية، بحيث لا تشبه بالرسالات التي سبقتها، وأنه إذا أريد تشبيهها فلا مشبه لها إلا ما كان مثلها.. وإذا لم يكن هناك ما هو مثلها، شبهت بنفسها هى، {كذلك أرسلناك} أي مثل إرسالك هذا الذي لا شبيه له، أرسلناك.. {فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ} أي أرسلناك في أمة قد مضت من قبلها أمم، وقد جرت على هذه الأمم سنة اللّه في خلقه، فكان في الماضي منها عبرة وعظة لمن يخلقها ويجىء بعدها.
وفى تعدية الفعل {أرسلناك} بحرف الجر {فى} بدل الحرف إلى الذي يتعدى به هذا الفعل دائما- إشارة إلى أن النبىّ هو من صميم هذه الأمة حتى لكأنها أشبه بالظرف الذي يحتويه زمانا، ومكانا، ومجتمعا.
فهو ليس طارئا على هذه الأمة، مستدعى إليها من خارج ذاتها.. وإنما هو في الصميم منها.
وفى قوله تعالى: {لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ} إشارة إلى مهمة الرسول، وأنها مهمة تبليغية، يتلو على هذه الأمة ما أوحى إليه من كتاب ربّه.. {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ} [29: الكهف].
وفى قوله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْم نِ}.
تشنيع على المشركين، وتهديد لهم، وتسفيه لجهلهم العنيد.. إذ كانوا كلما تلا النبىّ كلمات ربّه ازدادوا كفرا.. هكذا حالا بعد حال.
فجملة {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ} جملة حالية، وصاحب الحال هو الضمير في {عليهم} أي أنت تتلو عليهم الذي أوحينا إليك، وهم يكفرون بالرحمن.. هذا شأنك، وذلك شأنهم.! فما أبعد الفرق بينك وبينهم.. أنت تسمعهم كلمات اللّه، وهم يسمعونك السّفه والضلال.. وأنت تمدّ لهم يدك بالبرّ والإحسان، وهم يرجمونك بالأحجار والحصى! وفى ذكر اللّه سبحانه وتعالى باسمه الكريم الرحمن دون أسمائه الكريمة الأخرى، ما يشير إلى شناعة جرم هؤلاء المشركين، الذين كلما تليت عليهم آيات اللّه زادتهم كفرا، وضلالا، وأنهم إنما يكفرون {بالرحمن} الذي بعث فيهم رسولا منهم، يحمل بين يديه الدواء الذي يكشف عن قلوبهم ماران عليها من ضلال، ويرفع عن أبصارهم ما غشيها من ظلام.
أفذلك هو ما تستقبل به رحمة الرحمن؟ وأ هذا ما يجزى به المنعم على ما أنعم به من رحمة وهدى؟ ذلك جحود لئيم، وكفران سفيه..!
ومع هذا، فإن الرحمن الرحيم لم يعجّل لهم العذاب، ولم يقبض يده الرحيمة عنهم، بل لقد أمهلهم، ويده الكريمة بالرحمة مبسوطة لهم، ورسوله الكريم قائم فيهم، يتلو عليهم آيات ربّه، ويفتح لهم منها أبوابا واسعة من رحمة اللّه.
فإن هم أبوا أن يدخلوا في دين اللّه، حتى يموتوا على الكفر، فذلك من شؤمهم، ونكد حظهم.
قوله تعالى: {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ}.
.. هذا هو موقف النبىّ، بعد أن يبلّغ رسالة ربّه.. فليكفر من يكفر.. أما هو فمؤمن بربّه، الذي لا إله إلا هو، وهو متوكل عليه، لا يلتفت إلى غيره، ولا يطمع في ثواب إلا منه.
قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى..}.
هو توكيد لهذا الكفر الذي انطبع في قلوب أولئك الكافرين، الذين كلما تليت عليهم آيات {الرحمن} لجّ بهم العناد، والضلال.. فلم يزدادوا إلا كفرا على كفر، وضلالا إلى ضلال.
فلو نزل عليهم قرآن، تخرج منه آيات مادية محسوسة، من تلك الآيات التي كانوا يقترحونها على النبىّ، فتسيّر بهذا القرآن الجبال، أو تقطع به الأرض، أو تتفجر به العيون، أو يبعث به الموتى من القبور، وينادون فيجيبون- لو نزل عليهم قرآن يرون منه رأى العين هذه الآيات، لما آمنوا، ولما أخذوا موقفا غير هذا الموقف المنحرف الضلال الذي هم فيه.
والسؤال هنا: لما ذا حذف جواب {لو} في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ...}؟
والجواب- واللّه أعلم- هو أنه لما كان ضلال هؤلاء المشركين وعنادهم قد بلغ الغاية في هذا الباب، بحيث تنطق شواهده، وتشهد وقائعه، بأن القوم ليسوا طلّاب حقيقة، وإنما هم أصحاب مماحكات وجدل- لمّا كان هذا هو شأن القوم وتلك هى حالهم، فقد ترك جواب {لو} الشرطية لدلالة الحال عليه، وللإشارة إلى أن الجواب محمول مع الشرط، وأنه جواب واحد لا سبيل إلى غيره، وهو أن هؤلاء المشركين بالذات، لن يؤمنوا أبدا، كما يقول اللّه سبحانه وتعالى فيهم: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [146: الأعراف] وكما يقول سبحانه فيهم أيضا {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ} [96- 97: يونس] والتعبير بصيغة الماضي عن هذا القرآن الذي تسير به الجبال، أو تقطع به الأرض، أو يكلم به الموتى، وهذا ما يشير بأن هذه الآيات لو وقعت فعلا أمامهم لم يؤمنوا بها.
ومما يشهد لهذا الرأى الذي ذهبنا إليه في تأويل هذه الآية هو الأخبار وقد تأول المفسرون لهذه الآية كثيرا من وجوه التأويل، لم نجد فيها ما نطمئن إليه.
قوله تعالى: {بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً} هو إجابة عن سؤال يرد على الخاطر بعد الاستماع إلى قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى} وما يفهم من هذا، من أن هؤلاء المشركين لن يؤمنوا باللّه أبدا.. والسؤال هو: لما ذا لا يؤمن هؤلاء المشركون، بهذه الآيات التي يؤمن بها الناس؟ وماذا يحجزهم عن الإيمان، ويقيمهم على الشرك والضلال؟
وكان الجواب هوقوله تعالى: {بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً} أي أن الأمر كلّه للّه، لا يسأل عما يفعل، وهو- سبحانه- إذ حجز هؤلاء المشركين عن الهدى، وختم على قلوبهم وعلى سمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، فلم يروا آيات اللّه الكونية، ولم يسمعوا آيات اللّه المنزلة على نبيّه، ولم يتحوّلوا عن طريق الشرك والكفر- فذلك مشيئته فيهم.. {وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ} وليس لمخلوق أن يعترض على ما أراد الخالق به! {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ}.
قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا؟}.
اليأس: هو القنوط، وفقدان الرجاء.
والاستفهام هنا تقريرى، يراد به أخذ اعتراف المؤمنين باليأس من إيمان هؤلاء المشركين، وقطع الرجاء في أن يكونوا يوما من المؤمنين.. وأنه إذا كان عند المؤمنين بقيّة من أمل في إيمان هؤلاء الذين اتخذوا آيات اللّه هزوا وسخرية، والذين كلما تليت عليهم آيات اللّه زادتهم كفرا على كفر، ورجسا على رجس- إذا كان عند المؤمنين بقية من أمل في إيمان مثل هؤلاء، فليقطعوا حبل الرّجاء، وليكونوا على يأس من أن يؤمنوا.. وأنّه إذا سأل سائل منهم: لما ذا لا يرجى من هؤلاء المشركين إيمان، ورسول اللّه فيهم، وآيات اللّه تتلى عليهم؟
فهذا جواب ما سألوا عنه: {لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً} وهؤلاء المشركون لم يرد اللّه أن يطهّر قلوبهم من الشرك! فإذا بقي بعد هذا من يسأل: ولما ذا لم يرد اللّه أن يطهّر قلوبهم هم بالذات.. وقد طهّر قلوب كثير من إخوانهم الذين كانوا مشركين مثلهم فآمنوا واهتدوا؟ كان في قوله تعالى: {أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً}، الجواب الذي لا تعقيب عليه.. فتلك هى مشيئة اللّه في عباده.
{فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [7: الشورى].. {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [2: التغابن].. وهؤلاء المشركون هم ممن حقت عليهم كلمة اللّه.. {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ، أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ؟} [19: الزمر].
ونقرأ الآية الكريمة بعد هذا.
{وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً.. أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا.. أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً}.
وننظر فيها على هذا الفهم الذي فهمناها عليه، فنجد بيانا معجزا، ونظما متفردا بالجلال والروعة، والإعجاز، وإن بدأ في النظرة الأولى أنه غير جار على مألوف النظم، الذي تتشابك أطرافه، وتتماسك مقاطعه.. حتى لقد ذهب المفسّرون في هذا مذاهب كثيرة، كلها ليس فيها ما تقع صدى أو يشفى غليلا.. وكان أهداهم سبيلا من تأول قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ} بمعنى أفلم يعلم، وجاء بشاهد من الشعر يشهد لهذا المعنى.. وهو تأويل فاسد متهافت.. وقد استعمل القرآن فعل اليأس هذا في مواضع كثيرة من القرآن، فلم يكن في موضع منها ما يشهد لهذا المعنى! وكان من أشنع المقولات التي قيلت هنا، هى قول من قال: إن ييئس بمعنى يتبيّن، وأن كاتب المصحف قد خلط فسوّى رءوس السّينات في {يتبيّن} فقرئت {ييئس}!! وهذا قول ساقط، لا يستحق أن نلتفت إليه، أو نلقى إليه بالا.. فإن القرآن الكريم لم يودع في المصاحف إلا بعد أن أودع في صدور الكرام الحافظين من الصحابة والتابعين.. فكان المحفوظ في الصدور مهيمنا على ما كتب الكاتبون من كلام اللّه! والعجب أن يقال مثل هذا القول الشنيع في تفسير من التفاسير المعتمدة، ولو على سبيل النقل والحكاية.. فإن في ذلك طعنا في صحة القرآن الكريم، ومدخلا للشك في حفظه من التحريف.. الأمر الذي لا يطلب أعداء هذا الذين سلاحا أمضى من هذا السلاح، لطعنه طعنة في الصميم..!!
إن مثل هذا القول هراء، لا يصح أن يقف أحد عنده، أو ينظر إليه مجرد نظر عابر.
وتسأل: ماذا حمل المفسرين على هذا؟ ولا جواب، إلا النية الحسنة!! فهؤلاء المفسرون هم أحرص الناس على كتاب اللّه، وعلى توقيره، والذود عنه، وكشف مواقع الخير والهدى للناس منه.
ولكن عن نية حسنة أرادوا الدفاع عن النظم القرآنى، وإقامته على قواعد النحو التي استخلصوها من أساليب اللغة.. فكان منهم مثل هذه الزلات.. وفاتهم أن القرآن الكريم، وإن جرى على مألوف العرب في شعرهم ونثرهم، هو- قبل هذا- أسلوب فريد، تفرد بالكمال كله، واحتوى الحسن جميعه، وإلا لما أعجز العرب، وأفحمهم، وقطع نوازع الرغبة عندهم، في أن يعارضوه، ولو بسورة من مثله! ولا ندع الآية الكريمة، دون أن نعيد النظر إليها مرة أخرى، لنبحث عن السر في هذا النظم الفريد الذي جاءت عليه، حتى أنه لم يكن بين مقاطعها ترابط بحرف من حروف العطف! فما سرّ هذا؟
ونقول- واللّه أعلم-: إن الآية الكريمة في هذه المقاطع القليلة، قد عرضت أكثر من موقف، ولأكثر من جماعة.
فأولا: المشركون، وعنادهم، وضلالهم، وأنهم لن يؤمنوا أبدا ولو جاءتهم كل آية كانوا يقترحونها على النبي.
{وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى..}.
فهذه جبهة المشركين.. وتلك حالهم، وهذا حكم اللّه فيهم.. لن يؤمنوا أبدا، ولو جاءهم قرآن يتلى عليهم، فتطل منه هذه الآيات الكونية المجسمة، يرونها بأعينهم، ويلمسونها بأيديهم: {وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [7: الأنعام] وثانيا: الذين يعجبون لهذا الحكم الذي حكم به على المشركين.. سواء أكانوا من المؤمنين أو من المشركين.. وهؤلاء وأولئك جميعا، يلقاهم قول الحق سبحانه وتعالى: {بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً}.
فلتخرس الألسنة، ولتخضع الرقاب! وثالثا: المؤمنون الذين كانوا لا يزالون على طمع في أن يلحق بهم آباؤهم أو أبناؤهم، أو أزواجهم، أو إخوانهم، من هؤلاء المشركين- هؤلاء المؤمنون مطلوب منهم أن يريحوا أنفسهم باليأس من إيمان هؤلاء الذين يطمعون في إيمانهم، وأن يستمعوا لقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا؟}.
ورابعا: هذا اليأس الذي وقع في نفوس كثير من المؤمنين الذين كانوا يطمعون في أن يلحق بهم أهلوهم وإخوانهم، وأن يخرجوا من ظلام الكفر إلى الهدى والإيمان- هذا اليأس قد ترك مرارة وأسى في نفوس المؤمنين، فكان قوله تعالى: {أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} كان ذلك عزاء لهم، إذ كانت تلك إرادة اللّه فيهم.. كما يقول سبحانه للنبى الكريم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} [56: القصص] وكما يقول له سبحانه: {وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [103: يوسف] وكما يقول له سبحانه أيضا: {إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ} [37: النحل].
وهكذا أشرفت كلمات اللّه من عل على الناس جميعا.. مؤمنين، ومشركين، وخاطبت كل فريق منهم الخطاب الملائم له.. وكان من مقتضى الحكمة ألا تجمع بينهما في هذا الموقف جامعة، الأمر الذي أوجب عزل مقاطع الآية بعضها عن بعض، فلم يقم بينهما حرف عطف، إذ كان داعية الحال تقضى بأن ينزع المؤمنون من قلوبهم كل عاطفة تعطفهم على المشركين من أهليهم وذوى قرابتهم، وأن يستريحوا إلى اليأس من إيمانهم، غير آسفين على هذا المصير الذي هم صائرون إليه.. إذا أن الأمر كله للّه.. وأن لو شاء اللّه لهدى الناس جميعا.!
أفرأيت إذن كيف كان هذا الإعجاز في النظم؟ وكيف جاءت مقاطع الآية على هذا الوجه الذي جعل كل مقطع منها يكاد يعطى ظهره لصاحبه؟ وهل في غير كلام اللّه- سبحانه وتعالى- يجىء مثل هذا النظم الذي يجعل من الكلمات شخوصا ماثلة، مائجة بالعواطف الجياشة، الملتحمة في هذا الصراع.
من داخل ذاتها، ومن خارجها على السواء؟
فسبحان من هذا كلامه.. {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ}.
قوله تعالى: {وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ} هو إرهاص بما سيلقى هؤلاء المشركون والكافرون، من بلاء في هذه الدنيا على يد المؤمنين.
وإنه كما يئس المؤمنون من إيمان أهليهم وإخوانهم، وصبروا على تلك المصيبة فيهم، كذلك ينبغى عليهم أن يوطنوا أنفسهم على ألا يحزنوا، ولا يأسوا على ما سيحل بهؤلاء المشركين من بلاء، وما يصيبهم من قوارع، أي كوارث ونوازل، ذلك أنهم قد استوجبوا بكفرهم، هذا الخزي والبلاء في الدنيا، على يد المؤمنين، الذين سينصرهم اللّه عليهم، ويمكّن لهم من ديارهم وأموالهم.
وفى قوله تعالى: {تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ} إشارة إلى أن ما سيحل بالكافرين من خزى في هذه الدنيا، هو مما كسبته أيديهم، ومما جرّه عليهم كفرهم وضلالهم.
والقوارع التي أصابت هؤلاء الكافرين كثيرة.. منها ما أصابهم به المسلمون في غزوة بدر، وما رماهم اللّه سبحانه وتعالى به من خزى في غزوة الأحزاب، حيث يقول سبحانه: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً} [25: الأحزاب].
ثم ما كان في فتح مكة، حيث وقف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مشرفا على عتاة قريش وجبابرتها، وقد خشعوا بين يديه، وضرعوا له في ذلة واستكانة، فقال: «ما تظنون أنّى فاعل بكم»؟ فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم! فقال- صلوات اللّه وسلامه عليه-: «اذهبوا فأنتم الطلقاء!!».
وقوله تعالى: {حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ.. إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ}.
إشارة إلى أن هذه القوارع التي تحل بالكافرين لا ترتفع عنهم أبدا، ما داموا في هذه الحياة الدنيا، وما داموا في لباس الكفر، وذلك إلى أن يأتى وعد للّه وهو فتح مكة الذي وعد اللّه سبحانه وتعالى، النبىّ والمؤمنين به في قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ} [27: الفتح].. {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ}.
فقد صدق اللّه وعده ونصر عبده.
وفتح له البلد الحرام، ودخل الناس في دين اللّه أفواجا.
قوله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ} هو عزاء للنبى الكريم، ومواساة كريمة له.
لما كان يصيبه من أذى، يلقى به إليه قومه، بلا مبالاة وبغير حساب.. فالرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- ليس أول من دعا إلى الخير فلقى الأذى، ومدّ يده بالهدى، فردّ السفهاء يده.. فلقد سبقه إلى ذلك كثيرون من رسل اللّه، مستهم من أقوامهم البأساء والضرّاء.. ولكن اللّه سبحانه أملى لهؤلاء السفهاء، أي أمهلهم، وأفسح لهم في الحياة وزينتها، ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر.. كما يقول سبحانه: {فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [40: العنكبوت].
وفى قوله تعالى: {فَكَيْفَ كانَ عِقابِ}.
وعيد لهؤلاء المشركين من قريش، وإلفات لهم إلى ما أخذ اللّه به الظالمين قبلهم: وإنه لعقاب أليم.
وبلاء محيط، يهلك الحرث والنسل.
قوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ..} الاستفهام هنا إنكارى.. والهمزة بمعنى أىّ.. والتقدير: أىّ أحق بالعبادة، من هو قائم على كل نفس بما كسبت، فيعلم سرها وجهرها، ويجزيها على ما تعمل من خير أو شر، أم تلك الآلهة التي ولدتها الأوهام والضلالات؟.
وقد حذف المعادل لهمزة التسوية استخفافا به، وهوانا له، وتنزيها للّه سبحانه أن يقارن به شيء من خلقه، أو من ضلالات خلقه. ولهذا جاء النظم القرآنى عارضا قدرة اللّه، وأنه القاهر فوق عباده، القائم على كل نفس بما كسبت.. ضاربا عن ذكر الآلهة التي افتراها المفترون، وعبدها المشركون الضالون.
وقوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ} هو البديل من المقابل لقوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ} فبدلا من أن يجىء النظم القرآنى هكذا: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت أم تلك الأصنام الصماء الخرساء التي تعبدونها؟- جاء قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ} بدلا من هذا المقابل، الذي يعرض تلك الآلهة في ميزان واحد مع اللّه سبحانه وتعالى.. وكان قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ} مشيرا إلى هذا المقابل من طرف خفى، وعارضا له في معرض الزراية والاستخفاف، كاشفا عن وجه هذه المعبودات التي يعبدونها، وأنها من صنع أيديهم، أو من مواليد أوهامهم وضلالات عقولهم.
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ!!} فهى مجهولة، أي مصنوعة، أو مختلقة.. {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [23: النجم].
وقوله تعالى: {قُلْ سَمُّوهُمْ} هو تحد لهؤلاء المشركين أن يكشفوا عن وجه هذا الخزي الذي في أيديهم، وأن يضعوا لهذه المواليد أسماء تعرف بها! فكما استولدوا هذه الآلهة من ضلالاتهم، كان عليهم أن يضعوا لكل مولود اسما!!.
وفى مطالبتهم بتسمية آلهتهم تلك، إشارة إلى أنها أشياء غير معقولة، وغير متصوّرة، وأنها لا يمكن أن تكون لها أسماء دالة عليها.. إنها أوهام وخرافات وضلالات، فإذا أطلقت عليها أسماء، فهى إشارات عمياء، ليس بينها وبين مسمياتها صلة، من قريب أو من بعيد.
فالاسم عادة صفة من صفات المسمى، ودلالة من دلالاته.. فمن أسماء اللّه سبحانه وتعالى.. الرحمن.. الرحيم.. الخالق.. البارئ.. المصور.
السميع.. البصير.. الرازق.. القوى. العزيز.. إلى غير ذلك من أسمائه الحسنى.
ومن أسماء تلك الآلهة: هبل، وودّ، وسواع، ويغوث، ونسر.. وهى جميعها لا يراد منها إلا التفرقة بين هذه الدّمى المنصوبة، ليعرف بعضها من بعض كما كانوا يفعلون ذلك في تسمية بعض حيواناتهم، وأدواتهم.
فمطالبتهم بذكر أسماء آلهتهم تلك، هو اختبار عملىّ لهم، يضع بين أيديهم ما تكشف عنه هذه الأسماء من مسميات، هزبلة تافهة، لا يرجى منها خير، ولا يحشى منها ضر.
قوله تعالى: {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ.. أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ؟}.
هو إشارة إلى أن هذه الأسماء التي أطلقوها على آلهتهم، والتي وجدوا في أنفسهم الجرأة على النطق بها، وهى مما لا وجود لمسمياتها- إذ أن تلك الأسماء التي أطلقوها عليها، لا صلة بينها وبين تلك المسميات، وإنما هى- كما قلنا- إشارات عمياء، أرادوا بها أن تكون مجرد رمز، أو إشارة، يميزون بها بعضها من بعض، كالأطواق والقلائد التي كانوا يميزون بها أغنامهم وكلابهم! ونفى علم اللّه عن هذه المعبودات، هو نفى لعلمه بها على تلك الصفة التي جعلوها لها.. وإنما يعلمها اللّه سبحانه وتعالى على حقيقتها التي هى لها.
وفى قوله تعالى: {فِي الْأَرْضِ} إشارة إلى أن هذه الآلهة التي أطلقوا عليها تلك الأسماء، هى من العالم الأرضى.. من أحجاره، أو حيواناته.
وفى قوله تعالى: {أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} إشارة أخرى إلى أن هذه الأسماء التي أطلقوها على آلهتهم، هى كلمات، لا معنى لها.. وإنما هى أصوات، تبدو في ظاهرها كأنها كلام، أما باطنها فأجوف لا شيء فيه! قوله تعالى: {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ.. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ}.
هو الحكم المناسب لما كشف عنه الحال من هؤلاء المشركين، وما اتخذوا من دون اللّه من آلهة، وما جعلوا لتلك الآلهة من أسماء.. {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ}.
أي حلا في أعينهم هذا المكر، وحسن في عقولهم هذا الضلال، الذي صنعوه بأيديهم، وغذّوه بأوهامهم وخيالاتهم، فكان مكرا سيئا.. {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} فأضلّهم اللّه {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ} يهديه، ويرفع عن عينيه غشاوة الضلال.
وفى قوله تعالى: {وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ} إشارة إلى أن قوة خارجة عنهم هى التي صدّتهم عن سبيل اللّه، وحالت بينهم وبين الهدى. وتلك القوة وإن كانت خارجة عنهم إلّا أنهم قد استدعوها بضلالهم وعنادهم.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [5: الصف].
وقوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ} إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى قد أخلى بينهم وبين أهوائهم، ليضلّوا، فضلّوا.
قوله تعالى: {لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ}.
هذا هو جزاء المكذبين الضالّين، الذين حادّوا اللّه ورسوله.. {لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا}.
بما ينالهم على يد المؤمنين من هزيمة، وبما تغلى به قلوبهم أبدا من حسرة وكمد.. فالكافر همّه كله في هذه الدنيا، وحياته كلّه محصورة في الأيام المعدودة التي يعيشها فيها.. فهو من أجل هذا، حريص أشد الحرص على كل ما في دنياه هذه، فإذا فاته شيء منها- وما أكثر ما يفوته- استبدّ به الجزع، واستولى عليه اليأس، وملكه الحزن.. وإن أصيب بموت قريب أو حبيب- وما أكثر ما يصاب- لم يجد شيئا من ذلك العزاء، الذي يجده المؤمنون الذين يفوضون أمرهم للّه، ويسلمون مصيرهم إليه، ويرجون العاقبة عنده، ويحتسبون الصبر لديه..! وهكذا الكافر في قلق دائم، وجزع متصل، إذ لا حياة له وراء هذه الحياة، حسب تقديره وتفكيره.. فحيثما التفت، وجد العدم باسطا يديه لاحتوائه، والفناء فاغرا فاه لابتلاعه..!
{وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ}.
.. وهذا عذاب لا يتوقعه الكافر، ولا يعمل حسابا له، وإنما هو عذاب يجيئه على غير انتظار، ويطلع عليه من حيث لا يحتسب.
{وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ}.
أي ليس هناك من يدفع عنهم هذا العذاب، أو يخفف عنهم من شدته وهوله.


{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43)}.
التفسير:
قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ..}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أنّه وقد ذكر مصير المشركين في الآية السابقة عليها، في قوله تعالى: {لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ}.
كان من المناسب أن يذكر في مقابل هذا المصير المشئوم، المصير الحسن الطيّب، الذي أعدّه اللّه للمؤمنين المتقين من عباده، ليكون في ذلك إثارة لأشواق المؤمنين، وتعجيل بتلك البشريات المسعدة لهم، في حين أنه يملأ قلوب المشركين حسرة وألما، ويقطع أكبادهم كمدا وحسدا.
ومثل الشيء ما يماثله، ويشبهه، في بعض الوجوه، لا في كل وجه.. كما نقول مثلا: القط مثل النمر.. وهذه الفتاة مثل القمر، وهذا الطفل مثل الزهرة.
فهناك وجه شبه يجمع بين المشبّه والمشبّه به، وصفة مشتركة بينهما يلتقيان عندها.. والمثل يجمع أكثر من صورة من صور التشبيه، فهو تشبيه مركّب.
وفى قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}.
إشارة إلى أن هذا العرض ليس للجنة، في ذاتها، وإنّما هو عرض لجنّة تشبهها.. إذ أن الجنّة التي أعدها اللّه للمؤمنين المتقين من عباده، لا يمكن وصفها لنا، إذ لا شيء مما في دنيانا هذه، يشبه أشياءها.. كما ورد في الأثر: {فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر}.
فاشباه الجنة غير واقعة في فهمنا أو تصورنا، ومن ثمّ لم يكن للكلمات التي نتعامل بها مجال، لتصوير ما لا نفهمه ولا نتصوره.
فكان الحديث عنها بعرض صورة تشبهها، هو أقرب شيء ممكن أن نتمثل فيه صورة لها.
وقوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}.
مبتدأ، وخبره محذوف، موصوف، بقوله تعالى: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ}.
أي هى جنة تجرى من تحتها الأنهار.. والتقدير على هذا: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} مثل جنّد {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ.. أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها}.
فهذه الجنة التي تشبه جنة الآخرة موصوفة بصفتين.. تجرى من تحتها الأنهار.. وأكلها دائم وظلّها.. أي ثمارها دائمة لا تنقطع أبدا، كما تنقطع ثمار الدنيا، وظلّها دائم، أي مورقة مخضرة دائما، لا تتغيّر كما تتغير أشجار الدنيا على مدار الفصول.
وقوله تعالى: {تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ} تأكيد للوعد لذى وعده اللّه المتقين بهذه الجنة في قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} فهى لهم وحدهم، على حين أن للكافرين النار.. فكل ينزل الدار التي هو أهل لها.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ}.
الذين أوتوا الكتاب هم اليهود والنصارى.
والسؤال هنا: كيف كان يفرح أهل الكتاب بما أنزل على النبي؟
وإذا كانوا على تلك الصفة فلما ذا لا يؤمنون به، ولا يستجيبون له؟ بل لما ذا كانوا حربا عليه، وحزبا مع المشركين على الكيد له؟
والجواب على هذا من وجوه:
أولا: أن هذا كان في أول الدعوة الإسلامية، وكان أهل الكتاب يرصدون مطلع النبىّ، وينتظرون ظهوره.. فلما ظهر النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- توقعوا أن يكون مبعوثا إليهم، وإن كان من العرب، وانتظروا في تلهف ما ينزل عليه من آيات.. وإذ كان ينزل على النبىّ من آيات اللّه- في أول الدعوة- هو دعوة إلى الإيمان باللّه، والانخلاع عن عبادة الأصنام- فإن أهل الكتاب، لم يروا في هذا ما يضيرهم، أو يعارض الدين الذي هم عليه.. فكانوا لذلك يستبشرون بما ينزل على النبىّ في تلك المرحلة من الدعوة، فلما أن دكّ الإسلام حصون الشرك، وهدم معاقله، والتفت إلى أهل الكتاب، وخاصة اليهود، كان منهم هذا الموقف اللئيم المخادع الذي وقفوه من النبىّ الكريم، ورسالته.
وثانيا: أن في القرآن الكريم ذكرا لليهود والنصارى.. وهذا الذكر منه ما هو في مقام المدح لهم، ومنه ما هو في مقام الذمّ لمخازيهم، والفضح لنفاقهم.
فاليهود مثلا، كانوا يسمعون ما نزل على النبىّ مثل قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ} [94: يونس] وقوله تعالى: {يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ} [47: البقرة] كما كانوا يسمعون ما نزل من القرآن فيما كان بين موسى وفرعون، ونجاتهم على يد موسى، وغرق فرعون وجنوده، وكان هذا مما يسرّهم، وينعش نفوسهم.. فيتلّقون ما نزل من القرآن في مثل هذا، بالقبول والرضا.. فإذا نزل من القرآن ما يفضح الجوانب الخبيثة فيهم، ويكشف عن وجوه الشر المنطوية عليه صدورهم، مثل قوله تعالى فيهم: {فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ} [13: المائدة] وقوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} [51- 52: النساء]- إذا سمعوا مثل هذا من كلام اللّه، ساءهم وأفزعهم، فأنكروه، وأنكروا على الرسول رسالته كلها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ}.
فالأحزاب هنا هم جماعات اليهود الذين كانوا حزبا على النبي مع مشركى قريش، ومن انضم إليهم من قبائل العرب، فهم لا ينكرون كل ما جاء في القرآن، وإنما ينكرون منه ما فضح نفاقهم، وكشف تحريفهم لكتاب اللّه الذي في أيديهم.
وكذلك كان شأن النصارى.. يفرحون بالآيات التي تحدث عنهم حديثا فيه ذكر طيب لهم، كقوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [82: المائدة].
وكقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ} [33: آل عمران] ومثل ما قصّ القرآن من سيرة مريم.. فكل هذا مما يرضاه النصارى من القرآن، ويمسكون به منه، أما ما جاء في القرآن من حديث عن عيسى عليه السلام، وأنه عبد من عباد اللّه، وليس ابنا للّه، ولا إلها مع اللّه، وأن من يعبده على هذا المفهوم الخاطئ، كان كافرا باللّه- ساءهم ذلك وأنكروه.
وثالثا: ليس كل اليهود والنصارى وقف من الرسول الكريم، ومن كتاب اللّه الذي بين يديه، موقف الكفر به والتكذيب له، بل كثير منهم كان على انتظار لظهور هذا النبىّ، تحقيقا للبشريات التي بشرت بها عنه التوراة والإنجيل.. فلما جاء النبىّ لم ينكروه، بل تهيأت نفوسهم لاستقباله، واختبار ما عنده من كلمات اللّه.. فكانت كلما نزلت آيات من القرآن الكريم كشفت لهم دلائل جديدة تزيد من إيمانهم بالرسول، ومن تيقّنهم بصدقه.
فيفرحون لذلك ويستبشرون.
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ}.
هو ردّ على موقف أهل الكتاب الذين ينكرون بعض ما أنزل على النبي، وإنكار لموقفهم هذا من رسول اللّه، وكتاب اللّه.
فماذا ينكر أهل الكتاب من رسول اللّه ومن الكتاب الذي معه؟
إنه يعبد اللّه.. إلها واحدا لا شريك له.
وهو- صلوات اللّه وسلامه عليه- بهذه الدعوة يدعو عباد اللّه، إلى الإيمان باللّه.. إلها واحدا لا شريك له.
فماذا في هذا الكتاب الذي بين يدى الرسول، والذي هو دستور دعوته- ماذا فيه مما يخرج عن هذه الدعوة حتى ينكره المنكرون، ويكفر به الكافرون؟
أليس أهل الكتاب مؤمنين بما في كتبهم؟ أو ليست كتبهم من عند اللّه إله واحد؟ إن كان ذلك كذلك- فلما ذا ينكرون على النبىّ دعوته، وهو إنما يدعو إلى اللّه الواحد الأحد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد؟
{قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ.. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [64: آل عمران].
وفى قوله تعالى: {إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ} أسلوب قصر، يراد به أن الرسول لا يدعو إلا إلى اللّه وحده، وأنه إذا كان لأهل الكتاب دعوة إلى إله غير اللّه، فلا شأن له بهم، أمّا هو فإن دعوته إلى إله واحد.. لا شريك له.. وأن مآبه ومرجعه إليه.. فإذا كان في أهل الكتاب من يرى له مرجعا إلى غير اللّه، فذلك رأيه، وعليه تبعته.. أما الرسول فإنه لا مرجع له إلا إلى اللّه.
قوله تعالى: {وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ}.
أي كهذا الذي أنت عليه أيها النبىّ، وهو التزامك بالعبوديّة للّه وحده، ودعوتك الخالصة له، وإيمانك بمرجعك إليه- كهذا الذي أنت عليه جاء الكتاب الذي أنزل عليك.. فالزمه، واستقم عليه، ولا تلتفت إلى ما جاء في غيره من الكتب السابقة إن لم يكن مطابقا له، فهو الذي أنزله اللّه عليك حكما عربيا.. أي حاكما بأسلوبه العربي الذي نزل به، على الكتب السماوية السابقة، ومهيمنا عليها.
فالحكم هنا بمعنى: الحاكم المهيمن، ذو السلطان.
وجاء اللفظ القرآنى {الحكم} بمعنى الحاكم ولم يجىء بلفظه، للإشارة إلى أن القرآن الكريم هو حكم صدر من حاكم حكيم، هو اللّه سبحانه وتعالى.
وفى وصف الحكم بأنه عربى، تنويه بشأن الأمة العربية، ورفع لقدرها، ولشرف لغتها التي حملت حكم اللّه الحكيم العليم على الإنسانية كلها، بلسان العرب، وعلى يد الرسول العربىّ.
قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ}.
هو تعريض بما مع أهل الكتاب من ضلالات وأهواء أدخلوها على ما جاءهم به رسول اللّه من نور وهدى.. ثم هو من جهة أخرى توكيد لما في يد النبىّ من حق، وأنه بهذا الحق قد علم بما في أيدى أهل الكتاب من أهواء ومفتريات، وذلك حين التقى الحق الذي معه بالباطل الذي في أيديهم.
وتحذير النبي من اتباع أهواء أهل الكتاب، مع العلم الذي علمه من أمرهم- هذا التحذير هو إشارة لما مع أهل الكتاب من باطل، ينبغى على كل عاقل أن يحذره، ويتوقّى الخطر الذي يتهدد من يقترب منه.. حتى النبىّ نفسه، مع ما يملك من قوى الإيمان، ومع ما يحوطه من رعاية ربه، إن اتبع أهواء هؤلاء القوم تعرض لنقمة اللّه، ولم يكن له من ولىّ يدفع عنه بلاء اللّه، أو يقيه بأسه إن جاءه!! فكيف بغير النبي من عباد اللّه؟ إن الخطر شديد، وإن البلاء داهم، وإنه لا عاصم من أمر اللّه لمن ألقى نفسه في لجج هذا الطوفان!.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً.. وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ.. لِكُلِّ أَجَلٍ ك ِتابٌ}.
فى هذه الآية ردّ على المشركين، وتحديد لموقف النبي منهم، بعد أن جاءت الآية السابقة عليها، فاضحة لأهواء أهل الكتاب، محذرة النبي من أن يلتفت إليهم، أو يتعامل معهم بهذه الأهواء التي بين أيديهم.
والمشركون، كانوا ينكرون على النبي أن يكون إنسانا مثلهم، يأكل كما يأكلون، ويعيش كما يعيشون.. كما يقول اللّه سبحانه وتعالى على لسانهم: {وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ} [7: الفرقان].
فجاء قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً} ليقرر أن هؤلاء الرسل كانوا بشرا، وكان لهم ما للبشر، من أزواج وذرية.. فلست أنت أيها النبىّ بدعا من الرسل حتى ينكر منك المشركون ما أنكروا!.
وفى قوله تعالى: {وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} هو ردّ على ما كان يقترحه المشركون على النبىّ، كقولهم الذي حكاه القرآن عنهم:
{لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها} [7- 8 الفرقان] وقولهم أيضا: {وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا} [90- 93: الإسراء].
فالرسول لا يملك من أمر نفسه إلا ما يملك سائر الناس من أمر أنفسهم.
إنهم جميعا في قبضة اللّه، وتحت سلطانه.. وليس لرسول أن يأتى بآية إلّا بما يأذن اللّه له به من آياته. {قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ} [50: العنكبوت]- وهو سبحانه الذي ينزلها بقدر: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ}.
فكل آية مرهونة بوقتها، شأنها في هذا شأن المواليد التي تولد، والأحياء التي تموت.. فلا يولد مولود إلا بإذن اللّه، وفى الوقت الذي قدّره اللّه له، ولا تموت نفس إلا بإذنه، وفى الوقت الموقوت لموتها.
قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ} المراد بالمحو والإثبات هنا، هو ما يقع في الوجود من آثار قدرة اللّه، وتصرفاته في الموجودات، من إحياء وإماتة، ومن بناء وهدم، ومن زيادة ونقص، ونهار وليل، وزرع وحصاد.. إلى غير ذلك مما يجرى عليه نظام الوجود.. فهناك محو وإثبات، وإثبات ومحو.. وكذلك الآيات التي يحملها رسل اللّه إلى أقوامهم، هى واقعة تحت هذا الحكم، يمحو اللّه منها ما يشاء، ويبقى منها ما يشاء.. وينسخ دينا، ويقيم دينا، ويمحو شريعة ويثبت شريعة.
وهذا كله ثابت في علم اللّه.. فما يقع شيء في هذا الوجود إلا وهو واقع في علم اللّه الأزلىّ.. يظهر في وقته الموقوت له في علم اللّه.
والمراد ب {أم الكتاب} هو علم اللّه، الذي يرجع إليه كل أمر: {وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ} [59: الأنعام] قوله تعالى: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ} هو وعيد لهؤلاء المشركين والكافرين جميعا، وأنهم في معرض النقمة والبلاء، من اللّه، وسواء أوقع عليهم البلاء وحلّت بهم النقمة والنبىّ حىّ يرى بعض هذا ويشهده، أو يموت قبل أن يرى ما توعدهم اللّه به، فإن ذلك ليس من همّ النبىّ، ولا مما يشغل نفسه به، وإنما مهمته هى أن يبلغ رسالة ربّه، ويدع حساب المبلّغين للّه سبحانه، فهو- جل شأنه- الذي يتولى حسابهم وجزاءهم.
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ} المراد بنقص الأرض، ما يطرأ عليها من تغيير وتبديل، وما يصيب الناس في أرزاقهم وأعمارهم.. وإذا كان الذي يحدث في الأرض من نقص يحدث إزاءه ما يقابله من زيادة، إلا أن الأمر الذي أريد الإلفات إليه هنا هو ما يحدث من نقص، في الأموال، والأنفس، والثمرات، إذ كان ذلك هو الذي يهتمّ له الإنسان أكثر من اهتمامه لجانب الزيادة، وإذ كان المقام هنا مقام تهديد بنقم اللّه، حيث يرى المشركون والكافرون هذه الغير، وتلك الجوائح التي تقع هنا وهناك في أطراف الأرض، وأنها ليست بعيدة عنهم، ولا هم بمأمن منها.
{وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} أي أنه سبحانه إذا أراد أمرا نفذ، دون أن يعترض عليه معترض، أو يفلت منه مطلوب له: {وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ} [11: الرعد]- {وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ} أي أنه سبحانه وتعالى بقدرته ممسك بكل شىء، عالم بكل شىء.
لا يشغله شأن عن شأن، ولا حساب أحد عن أحد، فلو أراد سبحانه حساب الناس جميعا في طرفة عين لكان ذلك كما أراد! قوله تعالى: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} هو تهديد لهؤلاء المشركين والكافرين، الذين تصدّوا للنبىّ، وآذوه، وبهتوه وكذّبوا به.. وكان لهم في هذا مكرهم وتدبيرهم.. ولكن أين يقع هذا المكر والتدبير من مكر اللّه وتدبيره؟ إنه قطرة من محيطات، وهباءة من جرم السموات والأرض!- {يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} فيحاسب ويجازى.. لا يفلت مجرم من حسابه وعقابه.
{وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ}.
وعند الحساب سيرى الكفار بأعينهم لمن الفوز والظفر، وعلى من الخزي والخذلان؟
قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ}.
بهذه الآية الكريمة تختم سورة الرعد، فيلتقى ختامها مع بدئها: {المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ}.
ثم يصافح هذا الختام بدء السورة التي بعدها إبراهيم:
{الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ}.
فقوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا} هو جواب الكافرين على هذا الكتاب الذي جاءهم النبىّ به، والذي هو الحقّ الذي أنزل إليه من ربه.
وقوله تعالى في أول سورة إبراهيم- بعد هذه السورة: {الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} هو ردّ على جواب هؤلاء الكافرين، وردع لهم، وأنهم لم يخرجوا من الظلمات إلى النور، ولم يأذن اللّه لهم بالخروج من تلك الظلمات.
وقوله تعالى: {قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} إحالة للكافرين على موقف الحساب والمساءلة بين يدى اللّه، وهو سبحانه حكم عدل بينهم وبين النبيّ، عالم بما كان منه من أمانة في تبليغ ما أمر بتبليغه من ربه، وما كان منهم من تكذيب وبهت وكفر!- وقوله تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ} معطوف على فاعل الفعل {كفى} وهو لفظ الجلالة {باللّه} والباء حرف جرّ زائد.. أي كفى اللّه شهيدا بينى وبينكم، وكذلك من عنده علم الكتاب منكم، أي أهل العلم، فإنهم يعلمون أنى مرسل من عند اللّه! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ} [20: الأنعام] وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [36: الرعد] وقوله سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} [52: القصص] وقوله جل شأنه: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ} [197:
الشعراء] فعلماء بنى إسرائيل يعلمون صدق الرسول، وصدق ما جاء به من عند اللّه.
وإن كتمه بعضهم، وآمن به بعضهم.. وهم شهود على الكافرين المكذبين من قومهم.. {وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها} {وكفى بالله شهيدا}.

1 | 2 | 3